الأحد، 8 مارس 2015

سامحتك ياوطني

بينما كان القطار يشق طريقه ليصل الى مدينة فاس ، كان الأمل يتدفق بغزارة في شراييني و يسري في عروقي ليرسم بريقا ساطعا في مقلتاي. كنت واثق على أنهم لن يرفضوا طلب اجراء تدريب صيفي في وكالتهم ، لأن التطبيق الذي كنت أنوي أن أبرمجه كان سينتشل وكالتهم من بين أكوام الأوراق  و الخرائط البئيسة الى عالم المعلوميات و حضارة البرمجة.

عند المدخل ، استقبلتني مريم ( مهندسة في تحليل المعلومات الجغرافية ) بابتسامة عريضة ، رحبت بي واستضافتني في مكتبها المتواضع. شرحت لها بالتفصيل أهداف تطبيقي ، و كيف سأتمكن من برمجته و الوسائل التي سأعتمد عليها. أبرزت لها منافعه. اقتنعت بفكرتي، و أشادت كثيرا بها.  بعدها طلبت مني أن أنتظر حضور المسؤول عن الموارد البشرية لكي ننهي أخر الاجراءات و يتم قبول طلبي بنجاح. و هنا بدأت القصة  أو بالأحرى انتهت القصة.

بعد حوالي ساعة من الانتظار ، قدم المسؤول أخيرا، طرقت بابه بلطف و استأذنته الدخول و يا ليتني ما فعلتها. 
لم تلبث رجلي أن وطأت أرض مكتبه حتى أطلق شرارات غضب من عينيه و كأنها عاصفة رعدية كسرت ربيع أملي ، تنفست ببطئ لكي أتأقلم مع الانقلاب الجوي الغير مرتقب ، و رسمت بسمة لعلها تطرد الشحنات السالبة التي أرسل هذا السيد.  لكن الصنديد لا يعرف معنى البسمة و لا معنى الرحمة ، بل استمر على طبيعته قائلا :

ـ من أنت ؟ 
- ماذا تريد ؟  - ألا ترى على أنني مشغول ؟

ـ أسف ، أنا اسمي .... و أنا طالب بالمدرسة الفلانية للمهندسين ، قدمت اليوم من الدار البيضاء لمقابلتك ، أنت من طلب ذلك من مريم أليس كذلك ؟
نظر الي نظرة الجندي لعدوه ، و أراهن على أنه لو كان هنالك سهم بجانبه لما تردد في تسديده نحوي ، لكنه لم يجد سوى سهام الكلام فأرسلها نحوي اتباعا...
ـ لما قدمت الى هنا ؟ أنا مشغول ، من طلب منك القدوم ..... المهم انتظرني ريثما أنهي أعمالي ، بامكانك انتظاري في المكتب المقابل ، و بعدها سأتحدث معك و مع مريم .

ثم أرسل الي اشارات بصرية مفادها ، انطرد الأن ، أغرب عني وجهك. بدهشة كبيرة انصرفت من مكتبه ، أردت الذهاب بدون عودة لكن ماذا سأفعل مع مريم البريئة ؟ هل أتركها تعاني لوحدها مع هذا الذئب الشرس ؟
لا لا سأتحمل شره لكي لا أسبب لها مشاكل هي في غنى عنها. طأطأت رأسي ، وحاولت أن أتفهم هذا الواقع المرير ، شخص طلب ملاقاتي منذ أيام و هو الأن يعاملني كجرذ حقير دون أي مبرر و دون أي سبب ؟ 
لم أشرح له طبيعة عملي بعد و هو يحاربني بنظراته ، بتنهداته و في الأخير يسقطني بالقاضية بكلماته.   جلست في المكتب المقابل ، كانت هنالك فتاة  تحاول أن تستفسر عن علاقتي بذلك السيد ، طلبت مني بلطافة أن أصبر قليلا و ألا أنزعج لأن صاحبنا ليس في أفضل حالاته اليوم.  كانت بين الفينة و الأخرى تقول لي على أنه غارق في دوامة العمل ، لدى وجب علي أن أجهز أعصابي لكي تستقبل حماقاته.  لقد قرأت في ملامحي القسوة التي عاملني بها ، والفظاظة التي أكرمني بها أيضا ، تمنت لي الحظ الموفق ثم طلبت مني أن أعود الى مكتب الزعيم.
بخطوات متثاقلة دخلت الى عرينه مرة أخرى ، ألقيت بعيني يمينا و شمالا و لم أجد مريم ، يبدو على أنها لم تحضر بعد.
حاولت أن أضع غشاوة في أذني لتمنع كلماته الجارحة من اختراق طبلتي. 
بينما هو كان يحمل سماعة الهاتف بيده اليمنىى و كأنه يحمل بندقية ، و عندما رفع الخط أرسل رصاصاته :

ـ مريم ، أريدك حالا في مكتبي. 
وضع السماعة بقوة ، ثم استدار ....
ـ لقد قلت لك سابقا أنني مشغول ، لماذا قدمت اليوم ؟ و من الدار البيضاء ؟
ـ لقد أخبرتني مريم على أنك كنت تود ملاقاتي في هذا اليوم ، و لذلك تغيبت عنالدراسة لكي أتمكن من الحضور.

ـ ماذا تريد الأن ؟
ـ لقد حدثتك مريم ، أريد أن أقوم بتدريب صيفي داخل وكالتكم.

ـ هذا ليس بالشيء الهين ، هل تملك موضوعا أم ماذا ؟ 
ـ نعم ، أريد أن أقوم بتطبيق يقوم بحساب و تمثيل كل بيانات حوض سبو ، سيقوم بترقيمه و ستحدد مناطق الصبيب المرتفع ما سيمكنكم من معرفة المناطق المهددة بالغرق.  كما سيقوم بتحديد مجرى المسالك المائية النابعة من الحوض بدقة كبيرة ما سيمكن الفلاحين من الاستفادة الكبرى منها ، كما سيقوم بتحليل صور الأقمار الصناعية للحوض ، و هته الصور ستمكننا من استخراج بيانات مهمة سنبني عليها توقعات حول حالة الحوض للسنوات المقبلة.

في هته الأثناء دخلت مريم ، حياها المسؤول ببرودة ثم أرسل الي الكلمات التالية:

ـ لكن هذا كثير ، و نحن لا نقوم بهذا ، نحن لا نقوم بالأبحاث.
 ثم أضاف ... 

 ـ مريم ، لقد حدثك عن تطبيقه و أنت تعلمين على أننا لا نقوم بالأبحاث هنا ، نحن نعمل بما نملك فقط و لا شيء أكثر 
ـ لكن تطبيقه مهم و يمكن استغلاله في السنوات المقبلة ، صحيح على أن النظام المعلوماتي ليس متطورا هنا ، لكن تطبيق كهذا سيكون له أثر طيب في المستقبل ، وسيغنينا عن شراء برامج أخرى في المستقبل

ـ لا ، ان هو أراد أن يعمل في مشروعنا الحالي مرحبا ، و الا فنحن لسنا بمختبر أبحاث.
  تعلمين على أننا لا نقوم ب - Teledetection ـ هنا و لن نقوم بها.
ـ لكن، العديد من الشركات تستقبل الطلبة ليقوموا بهذا النوع من التداريب ، و أنا عندما كنت طالبة مثله قمت بنفس الشيء.

ـ لا ، في البداية كان عليه أن يحدد موضوع يناسب حاجاتنا ، المهم يمكنك الاتصال بعزيز و اطلبي منه أن يعطيك لائحة المشاريع الحالية ان هو استطاع مساعدتنا.

اكفهرت وجوهنا أنا و مريم ، انسحبنا في صمت ، نتجرع مرارة كلامه و كرمه . كلمات تكسر الزجاج فما بالك بالأفئدة ، عبارات جارحة و استضافة فاضحة ، تدمر ذرات الأمل واحدة تلو الأخرى ، واقع يصفعك و لا يرحمك ، يذكرك بمستقبلك في هذا الوطن.

هل هكذا سيتقدم الوطن ؟ عندما تحمل مشروعا ينبض بالروح و الأمل ، سيساهم في تقدم وكالة من وكالات وطنك ،
لكنك ترفض و ليس أنما رفض ، انما تطرد و تداس كرامتك ، لا تملك شيئا سوى .... سوى تفكير عميق مع النفس ، تسأل نفسك ، ان أنا مهندس أريد أن أساهم في تنمية وطني لا يرغبون بي ؟ فما علي سوى حمل شهادتي نحو أقرب بلد في الخارج ، خير لي أن أغترب في الغربة على أن أغترب في وطني.

ليست هذه المرة الأولى أو الاخيرة التي ألقى فيها جحود أبناء جلدتي ، فمرات و مرات تعرضت للتناسي أو النسيان ، بينما أحتضن من طرف الأجانب.
فرسالة صغيرة لأوروبي أو أميركي ، أتلقى فيها ردا مطولا مشروحا بدقة و تفصيل و ترحيب.
بينما عندما أقدم خدمتي و مجانا لوطني يتم طردي بدون سابق انذار. 
. . . . سامحك الله يا وطني