لطالما ظلت شخصية آخر العنقود وخاصة إن كان ذكراً ، شخصيته مثيرة للجدل، فأخطاؤه مغفورة قبل أن يرتكبها، وتماديه مبرر بداعي قلة المعرفة، وطلباته مجابة ربما قبل أن تخطر بباله.....
أما إن كان له حماقات، فإن محامي الدفاع الأول مستعد دائماً للدفاع عنه.....
لكن، ما السر في ذلك؟؟ ولماذا يكون آخر العنقود في الغالب أجمل إخوته ؟
التقيت به في صحبة سفر، لم أكن أعرفه من قبل، أحسست أنه يحب أن يتكلم عن نفسه، فأبديت اهتماماً لسماع حكاياته، علني ألحظ عبرة ما.
في أول فرصة نجلس فيها معاً في المطعم على العشاء، سألني ماذا تحب أن تشرب ؟؟ قلت له : لا أشرب غير الماء والشاي والقهوة ، وأنت ؟ قال: أنا كنت أشرب كل شي، وكنت أتأخر في العودة إلى البيت ليكون الأهل قد ناموا فلا يشعروا بي، لكنني .... اسمع قصتي.....
نحن نعيش في الأحياء القديمة من المدينة التي تتلاصق مع أسواقها، عندما كنت صغيراً تعلمتُ في جامع حارتنا بعض الآيات والأحاديث على يد إمام الجامع، كنت أشعر أن قلبي مفعما بالايمان، بدأت في العمل في دكان والدي ولم يتجاوز عمري العشر سنين، ثم أصبحت تاجراً صغيراً أمتلك مهارات مميزة في التجارة، وأصبح المال يجري بين يدي وبدأت أشعر أنني كلما تمسكت به كلما تسرب الكثير من إيماني ليذهب مع الريح....
إلى أن صرت لا أكترث ولا أتألم عندما أشرب المحرمات، كان رفاقي يحبون بذخي في سهراتنا، وكنت ألمحُ طمعهم في الكثير من الأحيان لكنني لم ألق ِ بالاً ما دمتُ أزهو بتلك السعادة الـزائفة.....
كنتُ آخر العنقود، أحبُّ أبي كثيراً، فعنايته الزائدة بي يسرت كل متع حياة الشباب بين يدي، وكنت أشفق عليه عندما أراه كيف يقف عاجزاً أمام فسادي، فحبه لي طالما منعه من تأنيبي بشدة...
في الفترة التي بقيت فيها الأعزب الوحيد بين إخوتي وأخواتي كنت أشعر أنني محور الأسرة، وحان الوقت لآخذ دوري في العناية بوالديّ، لكن حظي كان سيّئاً فلم أحصل على هذه الفرصة، فقد توفي والدي، وبوفاته شعرتُ أنني انتقلت فجأة من موقع الطفل المدلل إلى موقع الرجل المسؤول، فقررت أن أصير أكثر جدية وأن أعيد صياغة شخصيتي، فقد رُفع عني أكبر غطاء من الدعم الأسري....
بعد فترة العزاء ، وفي أول خروج لي مع أصدقائي طلبوا لي مشروباً، حاولت الامتناع لكن محاولتي لم تكن جدية بالكمية الكافية لأمتنع فعلاً، وخاصة أنهم أسمعوني بعض الكلمات التي درّسها إياهم إبليس بعناية.
عدت إلى البيت ليلتها ورائحة الشراب تزعجني، خشيت أن ألتقي بأمي فدخلت إلى غرفتي مشتاقاً إلى سريري، لم أكن ثملاً، فلازالت عندي القدرة على التفكير، كنت متعباً لأنني غير مقتنع بما فعلته الليلة.
دوامة كبيرة تحوم حول رأسي، ففترة العزاء كانت قد استرجعت لي شيئاً من بقايا الايمان، لا زلت أفكر بأبي، وهكذا غفوت....
أعرف أنني نائم وأن غلاماً وسيماً أنيقاً قد اقترب مني يوقظني ،ويقول هيا إلى الجامع فإمام المسجد يستدعيك على عجل، صرفته فحالتي لا تسمح لي بالذهاب إلى المسجد ومقابلة الإمام، عاد بعد لحظات ليقول لي طلب مني الإمام أن لا أعود بدونك فهناك أمر خطير.....
تحت ضغوطه وخطورة الأمر في حارتنا الصغيرة، أراني كيف انصعت لأمره، مسك بيدي يجرني إلى أن وصلنا إلى باب المسجد، ما هذا ؟؟ المسجد ممتلئ بالناس، وقفت في الباب لا أريد الدخول، وإذا بالإمام يقف عند المحراب ويناديني ، هيا بسرعة ، جاء دورك.... !!!!
أفسحَ الناس لي لأصل إلى الصف الأول فوجدت حلقة من عشرة رجال ليسوا من حيـينا، قال لي الإمام: يريدون أن يستمعوا إلى قراءتك، هيا، جاء دورك ، الحمد لله أنك أتيت في الوقت المناسب...
همست في إذن الإمام بأنني لست على وضوء، فقال : لا تلمس المصحف، اقرأ مما حفظتك إياه عندما كنت صغيراً.... المهم أن تقرأ.... وبقراءتك سأنال بعض الدرجات ، أرجوك يا بني اجبر بخاطري....
أجلسني وطلب مني الهدوء ، فقد أنصت الناس جميعاً ليستمعوا إلى قراءتي....
قرأت مما أجيد حفظه، أحسست بأن صوتي يزداد جمالاً، وأنا أنظر إلى الأمام وأرى على وجهه أسارير الرضا، أحسست أني أردُّ له شيئاً من معروفه، فهؤلاء الضيوف هنا جاؤوا لتقدير جهوده....
لكنني توقفت فجأة عن القراءة عندما قرأت كلام ربي " فؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفوراً رحيماً " بدأت الدموع تذرف من عيني، وكميات كبيرة من القهر تجمعت في حنجرتي وخنقت أساليب النطق. ساد صمت رهيب، الكل ينظر إلي بانتظار المتابعة.....
في هذه اللحظة فـُتحَ باب المسجد فرأيت أبي يقف في الباب، دعاه الإمام للدخول فامتنع وأشار إليّ أن آتي لعنده، هرعت إليه، الكل ينظر، الكل يراقب، عندما وصلت إليه أشار علي أن لا أقترب منه، فوقفت على بعد خطوتين وقلت له: يا والدي كيف عدت إلى الحياة؟؟ قال : يابني اسمعها كلمات، أنظر إلى هذه الحلقة من الرجال الغرباء الذين يستمعون القرآن، بعد موتي كنت أجلس معهم كل يوم، اليوم منعوني من الدخول وقالوا لي بسبب أعمال ابنك..... فماذا فعلتَ اليوم يابني ؟؟؟؟
بدأت ألطم وجهي وأصرخ والله لن أعيدها أبداً ، والله لن أعيدها أبداً..... وأنا أكررها وجدت أمي توقظني وتقول لي استيقظ يا ولدي و سمِّ الله ، ماذا حصل ؟؟
قصصت عليها قصتي، نظرتْ إلى الساعة وقالت لي : بقي عشرين دقيقة لأذان الفجر، قم ، اغتسل واذهب إلى المسجد لصلاة الفجر....
فتحتُ باب المسجد، فإذا بالامام ينظر إلى الناس ويطالبهم بتعديل صفوفهم، سيبدأ بالصلاة، أحسست أنه كان ينتظر قدومي وشعرتُ بفرحته عندما رآني، فقال أفسحوا ، فعندنا ضيف جديد، ودعاني إلى الصف الأول وبدأ صلاته بابتسامة جميلة.
الغريب في الأمر أنه قرأ نفس الآيات التي قرأتها في المنام ، وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، شعرت براحة كبيرة ، أحسست أن أبي في الجنة، وأنا أخطائي ستحول بينه وبين نعيمها، فقررت أن لا أقترب من المنكر بحياتي كلها....
أنهينا عشاءنا، فقلت له وماذا سنشرب الآن، فأجابني : اختياراتي هنا صارت ما بين الشاي والقهوة، لكن اختياراتي في الحياة أصبحت كبيرة جداً، فسأسير على نهج والدي، سأعمل صالحاً ولن أتوانى عن تقديم الخير، فقد هداني الله لرؤية مثوى أبي....وأنا سعيد كل السعادة.
توقفت عن الحديث معه، فقد انشغل تفكيري في استرجاع شخصيات أعرفها جيداً كانت هي آخر العنقود في أسرتها.... ترى هل الدلال الذي يحصل عليه آخر العنقود مرده إلى الأمل الذي يختزن في وجدان الأهل بأن يكون هو الأكثر عناية بهم في نهاية حياتهم ؟؟؟ وهل يتحقق في الغالب هذا الأمل ؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق