الخميس، 12 نوفمبر 2015

عبره وعظه

عبره وعظه

خرج الأمير علي ابن  الخليفة العباسي المأمون  الى شرفة القصر العاجية  ذات يوم  وراح
ينظرإلى سوق بغداد يتابع  الناس في السوق
فلفت نظر الأمير حمال  يحمل للناس بالأجرة وكان يظهر عليه الصلاح  فكانت حباله على كتفه
والحمل على ظهره ينقل الحمولة من دكان لآخر ومن مكان إلى مكان
فأخذ الأمير يتابع حركاته في السوق وعندما إنتصف الضحى ترك الحمال السوق وخرج إلى
ضفاف نهر دجلة وتوضأ  وصلى ركعتين ثم رفع يديه وأحذ يدعو  ثم عاد إلى السوق فعمل
إلى قبيل الظهر  ثم إشترى خبزا فأخذه إلى النهر فبله بالماء وأكل
ولما إنتهى توضأ للظهر وصلى  ثم نام ساعة وبعدها نزل إلى السوق ,, للعمل ..
وفي اليوم التالي عاد و راقبه الأمير علي وإذ به نفس البرنامج السابق... والجدول الذي لا يتغير
وهكذا اليوم الثالث والرابع
فأرسل الأمير جنديا من جنوده إلى ذلك الحمّال يستدعيه لديه في القصر فذهب الجندي وإستدعاه
 فدخل الحمال الفقير على الأمير وسلم عليه
فقال الأمير  :ألا تعرفني؟
فقال:   ما رأيتك حتى أعرفك
قال  أنا ابن الخليفة
فقال : يقولون ذلك
قال:   ماذا تعمل أنت  ؟
فقال :   أعمل مع عباد الله في بلاد الله
قال الأمير  قد رأيتك أياما... ورأيتُ المشقة التي أصابتك  فأريد أن أخفف عنك المشقة
فقال : بماذا ؟
قال الأمير  أسكن معي وأهلك بالقصر  آكلا  شاربا مستريحا لا همّ  ولا حزن ولا غمّ
فقال الفقير :
 يا ابن الخليفة, لا همّ على من لم يذنب , ولا غمّ على من لم يعص , ولا حزن على من لم يُسيء
أما من أمسى في غضب الله وأصبح في معاصي الله  فهو صاحب الغمّ والهمّ والحزن
 فسأله عن أهله  فاجابه  قائلا :
أمي عجوز كبيرة وأختي عمياء حسيرة وهما تصومان كل يوم وآتي لهما بالإفطار
ثم نفطر جميعا ثم ننام
فقال الأمير : ومتى تستيقظ ؟
فقال  إذا نزل الحي القيوم إلى السماء الدنيا - يقصد انه يقوم الليل
فقال : هل عليك من دين ؟
فقال  : ذنوبٌ سلفتْ بيني وبين ربي
فقال :  ألا تريد معيشتنا ؟
فقال : لا و الله  لا أريدها
فقال :  ولم ؟
فقال:  أخاف أنْ يقسو قلبي  وأن يضيع ديني
فقال الأمير : هل تفضل أن تكون حمالا على أن تكون معي في القصر؟
فقال  : نعم و الله
فأخذ الأمير يتأمله وينظر إليه  مدهوشاً
وراح الحمال يلقى عليه مواعظ عن الإيمان والتوحيد ثم تركه وذهب
وفي ليلة من الليالي شاء الله  ان يستيقظ الأمير وان يستفيق من غيبوبته
وأدرك أنه كان في سبات عميق وأن داعي الله  يدعوه لينتبه
فاستيقظ الأمير وسط الليل  وقال لحاشيته
أنا ذاهب إلى مكان  بعيد
أخبروا أبي  الخليفة المأمون أني ذهبت وقولوا له
بأنّي وإياه سنلتقي يوم العرض الأكبر
قالوا : ولم ؟
فقال : نظرتُ لنفسي وإذ بي في سبات وضياع وظلال وأريدُ أن أُهاجر بروحي إلى الله
فخرج وسط الليل وقد خلع لباس الأمراء ولبس لباس الفقراء ومشى واختفى عن الأنظار
ولم يعلم الخليفة ولا أهل بغداد أين ذهب الأمير وعهد الخدم به يوم ترك القصر  أنه راكب
إلى مدينة واسط كما تقول كتب  التاريخ
وقد غير هيئته كهيئة الفقراء وعمل مع تاجر في صنع الآجر
فكان له ورد في الصباح ويحفظ القرآن الكريم  ويصوم الأثنين والخميس ويقوم الليل ويدعو الله عز وجل
وما عنده من مال يكفيه يوما واحدا فقط
فذهب همه وغمه وذهب حزنه وذهب الكبر والعجب من قلبه
ولما أتته الوفاة أعطى  خاتمه للتاجر الذي كان يعمل لديه  وقال:
أنا ابن الخليفة المأمون  إذا متُ فغسلني  وكفني واقبرني ثم اذهب لأبي وسلمهُ الخاتم
فغسله وكفنه وصلى عليه وقبره وأتى بالخاتم للمأمون
وأخبرهُ خبره وحاله  فلما رأى الخاتم شهق وبكى الخليفة المأمون وارتفع صوته وبكى الوزراء
وعرفوا أنه أحسن اختيار الطريق ..
هذه قصة من قصص التاريخ  اُثبتتْ  وحفظتْ  ونقلتْ
فهل من عاقل؟
المصدر: سياط القلوب   د. عائض القرني